كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



كذلك يخوضون المعركة، وهم يوقنون أن الله وليهم فيها. وأنهم يواجهون قومًا، الشيطان وليهم فهم إذن ضعاف.. إن كيد الشيطان كان ضعيفًا.
ومن هنا يتقرر مصير المعركة في حس المؤمنين، وتتحدد نهايتها. قبل أن يدخلوها. وسواء بعد ذلك استشهد المؤمن في المعركة- فهو واثق من النتيجة- أم بقي حتى غلب، ورأى بعينيه النصر؛ فهو واثق من الأجر العظيم.
من هذا التصور الحقيقي للأمر في كلتا حالتيه، انبثقت تلك الخوارق الكثيرة التي حفظها تاريخ الجهاد في سبيل الله في حياة الجماعة المسلمة الأولى؛ والتي تناثرت على مدى التاريخ في أجيال كثيرة. وما بنا أن نضرب لها هنا الأمثال؛ فهي كثيرة مشهورة.. ومن هذا التصور كان ذلك المد الإسلامي العجيب، في أقصر فترة عرفت في التاريخ؛ فقد كان هذا التصور جانبًا من جوانب التفوق الذي حققه المنهج الرباني للجماعة المسلمة، على المعسكرات المعادية.. ذلك التفوق الذي أشرنا إليه من قبل في هذا الجزء. وبناء هذا التصور ذاته كان طرفًا من المعركة الكلية الشاملة التي خاضها القرآن في نفوس المؤمنين، وهو يخوض بهم المعركة مع أعدائهم المتفوقين في العدد والعدة والمال؛ ولكنهم في هذا الجانب كانوا متخلفين؛ فأمسوا مهزومين!
وها نحن أولاء نرى الجهد الذي بذله المنهج في إنشاء هذا التصور وتثبيته.
فلم يكن الأمر هينًا. ولم يكن مجرد كلمة تقال. ولكنه كان جهدًا موصولًا، لمعالجة شح النفس، وحرصها على الحياة- بأي ثمن- وسوء التصور لحقيقة الربح والخسارة.. وفي الدرس بقية من هذا العلاج، وذلك الجهد الموصول.
إن السياق يمضي- بعد هذا- إلى التعجيب من أمر طائفة أو أكثر من المسلمين- قيل إن بعضهم من المهاجرين، الذين كانت تشتد بهم الحماسة- وهم في مكة يلقون الأذى والاضطهاد- ليؤذن لهم في قتال المشركين. حيث لم يكن مأذونًا لهم- بعد- في قتال، للحكمة التي يعلمها الله؛ والتي قد نصيب طرفًا من معرفتها فيما سنذكره بعد.. فلما كتب عليهم القتال، بعد أن قامت للإسلام دولة في المدينة، وعلم الله أن في هذا الإذن خيرًا لهم وللبشرية.. إذا هم- كما يصورهم القرآن- {يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب} ممن إذا أصابتهم الحسنة قالوا: هذه من عند الله. وإن أصابتهم السيئة قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: هذه من عندك. وممن يقولون: طاعة حتى إذا خرجوا من عند الرسول صلى الله عليه وسلم بيت طائفة منهم غير الذي تقول. وممن إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به.
يمضي السياق ليعجب من شأن هؤلاء، في الأسلوب القرآني؛ الذي يصور حالة النفس، كما لو كانت مشهدًا يرى ويحس! ويصحح لهم- ولغيرهم- سوء التصور والإدراك لحقائق الموت والحياة، والأجل والقدر، والخير والشر، والنفع والضرر، والكسب والخسارة، والموازين والقيم؛ ويبين لهم حقائقها في أسلوب يصور الحقائق في صورتها الموحية المؤثرة:
{ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة. فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية. وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلًا. أينما تكونوا يدرككم الموت. ولو كنتم في بروج مشيدة}.
{وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله. وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك. قل كل من عندالله. فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا ما أصابك من حسنة فمن الله. وما أصابك من سيئة فمن نفسك. وأرسلناك للناس رسولًا وكفى بالله شهيدًا. من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظًا}.
{ويقولون طاعة. فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلًا. أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا}.
{وأذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به. ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم.. ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلًا}.
هؤلاء الذين تتحدث عنهم هذه المجموعات الأربع من الآيات؛ قد يكونون هم أنفسهم الذين تحدثت عنهم مجموعة سابقة في هذا الدرس: {وإن منكم لمن ليبطئن}... الآيات... ويكون الحديث كله عن تلك الطائفة من المنافقين؛ التي تصدر منها هذه الأعمال وهذه الأقوال كلها.
وقد كدنا نرجح هذا الرأي؛ لأن ملامح النفاق واضحة، فيما تصفه هذه المجموعات كلها. وصدور هذه الأعمال وهذا الأقوال عن طوائف المنافقين في الصف المسلم، أمر أقرب إلى طبيعتهم، وإلى سوابقهم كذلك. وطبيعة السياق القرآني شديدة الالتحام بين الآيات جميعا.
ولكن المجموعة الأولى من هذه المجموعات التي تتحدث عن الذين: {قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة. فلما كتب عليهم القتال}... الآيات هي التي جعلتنا نتردد في اعتبار الآيات كلها حديثًا عن المنافقين- وإن بدت فيها صفات المنافقين وبدت فيها لحمة السياق واستطراده- وجعلتنا نميل إلى اعتبار هذه المجموعة واردة في طائفة من المهاجرين- ضعاف الإيمان غير منافقين- والضعف قريب الملامح من النفاق- وأن كل مجموعة أخرى من هذه المجموعات الأربع ربما كانت تصف طائفة بعينها من طوائف المنافقين، المندسين في الصف المسلم. وربما كانت كلها وصفًا للمنافقين عامة؛ وهي تعدد ما يصدر عنهم من أقوال وأفعال.
والسبب في وقوفنا هذا الموقف أمام آيات المجموعة الأولى؛ وظننا أنها تصف طائفة من المهاجرين الضعاف الإيمان؛ أو الذين لم ينضج بعد تصورهم الإيماني؛ ولم تتضح معالم الاعتقاد في قلوبهم وعقولهم.
السبب هو أن المهاجرين هم الذين كان بعضهم تأخذه الحماسة والاندفاع، لدفع أذى المشركين- وهم في مكة- في وقت لم يكن مأذونًا لهم في القتال- فقيل لهم: {كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}.
وحتى لو أخذنا في الاعتبار ما عرضه أصحاب بيعة العقبة الثانية الاثنان والسبعون على النبي صلى الله عليه وسلم من ميلهم على أهل منى- أي قتلهم- لو أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم ورده عليهم: «إننا لم نؤمر بقتال». فإن هذا لا يجعلنا ندمج هذه المجموعة من السابقين من الأنصار- أصحاب بيعه العقبة- في المنافقين، الذين تتحدث عنهم بقية الآيات. ولا في الضعاف الذين تصفهم المجموعة الأولى. فإنه لم يعرف عن هؤلاء الصفوة نفاق ولا ضعف؛ رضي الله عنهم جميعًا.
فأقرب الاحتمالات هو أن تكون هذه المجموعة واردة في بعض من المهاجرين، الذين ضعفت نفوسهم- وقد أمنوا في المدينة وذهب عنهم الأذى- عن تكاليف القتال.
وألا تكون بقية الأوصاف واردة فيهم، بل في المنافقين. لأنه يصعب علينا- مهما عرفنا من ظواهر الضعف البشري- أن نسم أي مهاجر من هؤلاء السابقين بسمة رد السيئة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم دون الحسنة! أو قول الطاعة وتبييت غيرها.. وإن كنالآنستبعد أن توجد فيهم صفة الإذاعة بالأمر من الأمن أو الخوف. لأن هذه قد تدل على عدم الدربة على النظام، ولا تدل على النفاق.
والحق.. أننا نجد أنفسنا- أمام هذه الآيات كلها- في موفق لا نملك الجزم فيه بشيء. والروايات الواردة عنها ليس فيها جزم كذلك بشيء.. حتى في آيات المجموعة الأولى. التي ورد أنها في طائفة من المهاجرين؛ كما ورد أنها في طائفة من المنافقين!
ومن ثم نأخذ بالأحوط؛ في تبرئة المهاجرين من سمات التبطئة والانخلاع مما يصيب المؤمنين من الخير والشر. التي وردت في الآيات السابقة. ومن سمة إسناد السيئة للرسول صلى الله عليه وسلم دون الحسنة، ورد هذه وحدها إلى الله! ومن سمة تبييت غير الطاعة.. وإن كانت تجزئة سياق الآيات على هذا النحو ليست سهلة على من يتابع السياق القرآني، ويدرك- بطول الصحبة- طريقة التعبير القرآنية!!! والله المعين.
{ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاه فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية. وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل. والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلًا. أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة...}
يعجب الله سبحانه من أمر هؤلاء الناس؛ الذين كانوا يتدافعون حماسة إلى القتال ويستعجلونه وهم في مكة، يتلقون الأذى والاضطهاد والفتنة من المشركين. حين لم يكن مأذونا لهم في القتال للحكمة التي يريدها الله. فلما أن جاء الوقت المناسب الذي قدره الله؛ وتهيأت الظروف المناسبة وكتب عليهم القتال- في سبيل الله- إذا فريق منهم شديد الجزع، شديد الفزع، حتى ليخشى الناس الذين أمروا بقتالهم- وهم ناس من البشر- كخشية الله؛ القهار الجبار، الذي لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد.. {أو أشد خشية}!! وإذا هم يقولون- في حسرة وخوف وجزع- {ربنا لم كتبت علينا القتال}.. وهو سؤال غريب من مؤمن. وهو دلالة على عدم وضوح تصوره لتكاليف هذا الدين؛ ولوظيفة هذا الدين أيضًا.. ويتبعون ذلك التساؤل، بأمنية حسيرة مسكينة! {لولا أخرتنا إلى أجل قريب} وأمهلتنا بعض الوقت، قبل ملاقاة هذا التكليف الثقيل المخيف!
إن أشد الناس حماسة واندفاعًا وتهورًا، قد يكونون هم أشد الناس جزعًا وانهيارًا وهزيمة عندما يجد الجد، وتقع الواقعة.
بل إن هذه قد تكون القاعدة! ذلك أن الاندفاع والتهور والحماسة الفائقة غالبًا ما تكون منبعثة عن عدم التقدير لحقيقة التكاليف. لا عن شجاعة واحتمال وإصرار. كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال. قلة احتمال الضيق والأذى والهزيمة؛ فتدفعهم قلة الاحتمال، إلى طلب الحركة والدفع والانتصار بأي شكل. دون تقدير لتكاليف الحركة والدفع والانتصار.. حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدروا، وأشق مما تصوروا. فكانوا أول الصف جزعًا ونكولًا وانهيارًا.. على حين يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم، ويحتملون الضيق والأذى بعض الوقت؛ ويعدون للأمر عدته، ويعرفون حقيقة تكاليف الحركة، ومدى احتمال النفوس لهذه التكاليف. فيصبرون ويتمهلون ويعدون للأمر عدته.. والمتهورون المندفعون المستحمسون يحسبونهم إذا ذاك ضعافًا، ولا يعجبهم تمهلهم ووزنهم للأمور! وفي المعركة يتبين أي الفريقين أكثر احتمالًا؛ وأي الفريقين أبعد نظرًا كذلك!
وأغلب الظن أن هذا الفريق الذي تعنيه هذه الآيات كان من ذلك الصنف، الذي يلذعه الأذى في مكة فلا يطيقه؛ ولا يطيق الهوان وهو ذو عزة. فيندفع يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأذن له بدفع الأذى، أو حفظ الكرامة. والرسول صلى الله عليه وسلم يتبع في هذا أمر ربه بالتريث والانتظار، والتربية والإعداد، وارتقاب الأمر في الوقت المقدر المناسب. فلما أن أمن هذا الفريق في المدينة؛ ولم يعد هناك أذى ولا إذلال، وبعد لسع الحوادث عن الذوات والأشخاص؛ لم يعد يرى للقتال مبررًا؛ أو على الأقل لم يعد يرى للمسارعة به ضرورة!
{فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب}.
وقد يكون هذا الفريق مؤمنًا فعلا. بدليل اتجاههم إلى الله في ضراعة وأسى! وهذه الصورة ينبغي أن تكون في حسابنا. فالإيمان الذي لم ينضج بعد؛ والتصور الذي لم تتضح معالمه؛ ولم يتبين صاحبه وظيفة هذا الدين في الأرض- وأنها أكبر من حماية الأشخاص، وحماية الأقوام، وحماية الأوطان، إذ أنها في صميمها إقرار منهج الله في الأرض، وإقامة نظامه العادل في ربوع العالم؛ وإنشاء قوة عليا في هذه الأرض ذات سلطان، يمنع أن تغلق الحدود دون دعوة الله؛ ويمنع أن يحال بين الأفراد والاستماع للدعوة في أي مكان على سطح الأرض؛ ويمنع أن يفتن أحد من الأفراد عن دينه إذا هو اختاره بكامل حريته- بأي لون من ألوان الفتنة- ومنها أن يطارد في رزقه أو في نشاطه حيث هو- وهذه كلها مهام خارجة عن وقوع أذى على أشخاص بعينهم أو عدم وقوعه.